حين بدأت التحضيرات للغزو الأمريكي للعراق وهو الغزو الذي اتضحت أهدافه الحقيقية اليوم، أصر مهندسو الغزو من المحافظين الجدد، ومن ساهم معهم من المتعاونين العراقيين، أن يتعاملوا مع المجتمع العراقي كجماعات عرقية وطائفية ومذهبية وان يسعوا بالدرجة الأولى إلى طمس عروبة هذا البلد ذي التاريخ العريق، والحاضر القوي ، في حياة الأمة العربية فقد اعترفوا بكل القوميات المكونة للعراق إلا بالعروبة، وبكل المذاهب إلا بالإسلام الجامع الموحد، فكان الحديث عن كرد وتركمان، وكلاهما من المكونات القومية المعترف بها من قبل العراقيين والعرب جميعاً، ولكن عندما جاءوا إلى العراق تحدثوا عن سنة وشيعة ومسيحيين وصابئة ويزيديين في محاولة مفضوحة لتقسيم هذا البلد العربي الهام من جهة، ولكن أيضاً لإطلاق فتن عرقية وطائفية ومذهبية على مستوى المنطقة بأسرها من باكستان وصولاً إلى لبنان.
لم يكن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشر به الصهاينة أولاً، واعتمدته إدارات أمريكية متلاحقة، ومهّد له منظرون أمريكيون كصموئيل هنتجتون في حديثه عن "صدام الحضارات"، وقبله برنارد لويس في مشروعه لتقسيم الوطن العربي إلى دويلات عرقية وطائفية ومذهبية، هو المشروع الهجومي الأول على الوحدة العربية، فقد سبقته معاهدة سايكس – بيكو الشهيرة أبان الحرب العالمية الأولى، ووعد بلفور البريطاني الذي جاء ترجمة حرفية لمشروع فصل مشرق الوطن العربي عن مغربه الذي دعا إليه عام 1840 رئيس وزراء بريطانيا بالمرستون بعد تقدم جيوش محمد علي وابنه إبراهيم باشا من مصر إلى بلاد الشام مع كل ما أثاره ذاك التقدم من مخاوف استعمارية من قيام دولة عربية حدودها حيث يتحدث الناس بالعربية كما قال يومها إبراهيم باشا.
لقد اكتشف إبراهيم باشا عبر حس تاريخي واستراتيجي مرهف ، وهو الألباني الأصل، إن العروبة هي المدى الحيوي لمصر وان أمن وادي النيل يمتد شمالاً إلى فلسطين وسوريا ولبنان وشرق الأردن والعراق والجزيرة العربية، وهي حقائق اكتشفها قبله، قطز والظاهر بيبرس ونور الدين وصلاح الدين، بل هي حقائق ما تجاهلها يوماً حاكم مصري إلا ووضع بلاده في مهب الرياح وعرّض أمنها، كل أمنها بما فيه الأمن المائي، لأخطار محدقة.
من ابرز الهجمات أيضاً على الوحدة العربية التي هي تجسيد للرابطة القومية العربية، كانت مؤامرة الانفصال المشؤوم في مثل هذه الأيام قبل 59 عاماً لضرب أول وحدة عربية بين مصر وسوريا لا لأن تلك الوحدة جاءت فعل تمرد ثوري على سايكس – بيكو فحسب، بل لأن الانفصال هو تحقيق للتجزئة، أي "جعلها حقيقة وحقا"، - والقول لمؤسس البعث ميشيل عفلق بعد الانفصال - كما نرى هذه الأيام وبعد ستة عقود، من توسع دعوات الانفصال والتقسيم وهي تتوالى في العديد من أقطار الأمة وبما يهدد وحدة الكيانات الوطنية ذاتها ولعل الفصل السوداني القادم مع الاستفتاء هو من أخطرها وكذلك ما يتعرض له اليمن أيضاً من دعوات للانفصال.
ومن ابرز الهجمات على العروبة كانت تلك التي استهدفت مسيرة جمال عبد الناصر الوحدوية التحررية التقدمية على مدى 18 عاماً (1952-1970)، عاشها القائد الراحل قائداً لمصر وللأمة ومحركاً رئيسياً لحركات التحرر في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهي هجمة استهدفت كذلك الحركات القومية العربية وفي مقدمها حزب البعث العربي الاشتراكي، مستفيدة في استهدافها هذا، دون شك، من أخطاء وخطايا وقعت بها المسيرة القومية العربية بكل فصائلها منذ خمسينيات القرن الماضي، وهي أخطاء وخطايا لا بد من مراجعة نقدية لها، مراجعة تكون جريئة وصادقة ومترفعة عن الرواسب والحساسيات من اجل أي نهوض قومي جديد.
ظن كثيرون إن تراجع المسيرة القومية العربية وتعثر حركة الوحدة العربية سيسمحان ببناء "قطريات" عربية قادرة على النهوض بكياناتها وتوفير الأمن والوحدة والتنمية والعدالة والاستقلال الوطني لبلدانها، وازدهرت في ظل هذه الأوهام نظريات وسياسات ومقولات تمجد القطرية على حساب الانتماء القومي، وتشيد بالتقوقع على حساب التكامل الوحدوي، فارتكبوا في ذلك الخطأ ذاته الذي وقع فيه من ظن يوماً انه بتخلصه من دولة الخلافة الإسلامية سيقيم دولة عربية موحدة، غافلاً بذلك عن أن المستعمر كعادته، يعد الشعوب بكل ما تحلم به، فيما تعمل مخططاته على إحكام السيطرة عليها، ووضع اليد على مقدراتها، وتفتيت وحدة مجتمعاتها، ألا يعيد التاريخ نفسه هذه الأيام ومع ضمانات قيل إن الراعي الأمريكي قد وعد بها المفاوض الفلسطيني، وهي وعود تذكرنا، بوعود خادعة قدمها بوش للعراقيين عشية احتلال بلدهم.
ولقد نسي هؤلاء جميعاً انه كما أن للوحدة منطقها وآلياتها ونهجها الذي لا يتجزأ، فان للتجزئة بالمقابل قوانينها التي تواصل الفتك بالوحدة من أعلى مراتبها حتى اصغر خلاياها.
ونسي هؤلاء مثلاً أن الوحدة الإسلامية هي ضمانة الوحدة القومية، وان الوحدة القومية هي ضمانة الوحدة الوطنية، وان الوحدة الوطنية هي الأخرى ضمانة وحدة كل مكونات المجتمع الوطني التي لم يحاول مرة مدّعو زعامتها منها مرة أن يبنوا لجماعتهم سياجاً خاصاً بها، عرقياً كان أم طائفياً أو مذهبياً أو حتى جهوياً ومناطقياً، إلا وكانت تجد هذه الجماعة نفسها منقادة نحو انتحار جماعي يودي بها وبمصالحها وبخصوصياتها فيما هي تعتقد أنها تحصن نفسها وتصون ذاتها. والأمثلة على هذه المعادلة كثيرة، ولعلنا في لبنان عشنا ونعيش حالات تؤكد ذلك.
لذلك، فان القانون الرئيسي الذي يحكم تاريخ هذه الأمة هو قانون الصراع بين الوحدة والتضامن بكل مستوياتهما ومراتبهما من جهة، وبين التجزئة والتفتيت بكل تجلياتهما، أما كل الظواهر الأخرى التي شهدتها المنطقة فإنما كانت تنمو في قلب هذا الصراع أحيانا أو على هامشه أحياناً أخرى، تغذيه أحياناً، وتتغذى منه أحياناً كثيرة.
فالاستعمار والاحتلال الأجنبي والمشروع العنصري الصهيوني ليسوا حلفاء التجزئة وعاملين على ترسيخها وتعميقها بالتفتيت فحسب، بل ان التجزئة ومعها التفتيت هما الاحتياطي الاستراتيجي لهؤلاء الأعداء، بل هما التربة الخصبة التي تنمو فيها كل مشاريعهم للهيمنة والسيطرة ونهب الموارد والخيرات.
وكذلك الاستبداد والاستغلال والتخلّف ليسوا مجرد حراس لهذه التجزئة، ورديفها التفتيت، فحسب، بل أن هذه التجزئة، ومعها التفتيت، هما الإطار الأمثل للمستبد لكي يستبد بشعبه متلاعباً بمكونات مجتمعه مثيراً للتناقضات بينها لصالحه، كما إنهما الأرض الأخصب لكي ينهش المستغلون والمحتكرون أظافرهم الدامية في ارزاق الناس وحقوقهم، بل هما البيئة النموذجية لكي يبقى المتخلّف متخلفاً، والأمي أمياً، والفقير فقيراً.
ومن يعود إلى الأرقام والإحصاءات التي تقدمها تقارير التنمية البشرية العربية يكتشف حجم المعاناة التي تعيشها أمة كأمتنا على مختلف الصعد لأنها في غياب وحدتها انما تفقد الأمن والعدل الاجتماعي والتنمية المستقلة معاًَ، ناهيك عن فقدانها لمقومات السيادة الحقيقية، والاستقلال الناجز والمشاركة الشعبية الصحيحة بالإضافة إلى زعزعة ركائز هويتها وثقافتها ولغتها وحضورها الحضاري بين الأمم.
وإلا كيف نفسّر ان أمتنا بما تمتلك من اشراقات الماضي وأمجاده، وتضحيات الحاضر وإمكانياته، لا تستطيع ان تواكب العصر، ولا أن تحاكي دولاً عدة مماثلة مجاورة، او بعيدة، في تقدمها ونهضتها، إلا اذا انتبهنا إلى ان المقاربة الاكثر واقعية لتفسير هذه الظاهرة هي اننا حُرمنا بفعل الاحتلال الخارجي والاختلال الداخلي، وكلاهما يكملّ الآخر ويغذيه، من امتلاك قانون العصر وهو قانون التكتلات الكبرى بين أمم قفزت حتى فوق الحدود القومية ، وتجاوزت الحروب التاريخية، إلى رحاب المنظومات القارية او ما شابه.
إنها مفارقة العصر دون شك، حيث تتقدم امم العالم كله إلى منظومات التكامل الاستراتيجي بكل عناصره السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثفافية، فيما العرب وحدهم بين الشعوب ينحدرون في مهاوي التجزئة والتقسيم والتفتيت.
قد تختلف الاجتهادات في تفسير هذه المفارقة الكبرى، فيعزو البعض هذه المفارقة إلى وطأة النفوذ الاجنبي، والبعض الآخر إلى تأثير الاستبداد الداخلي. ويتحدث البعض عن فجوة حضارية لا يمكن للعرب ردمها، وقد يكون لكل اجتهاد وجاهته ومنطقه، لكن أيّاً من هذه الاجتهادات لا يستطيع ان يتجاهل مصدراً مركزياً لهذا الخلل، وهو الحصار الشديد والمتصاعد، بل والحرب المستمرة على كل المستويات للرابطة الجامعة للعرب بافكارها ورموزها والقوى الحاملة لرايتها، وبل الحرب على العروبة بكل تجلياتها الثقافية والحضارية ومخزونها الروحي والتراثي، ومداها التاريخي والاستراتيجي، وآفاقها الاقتصادية والاجتماعية، وهي حرب ثقافية وسياسية واعلامية وامنية، وحتى عسكرية، تنخرط فيها قوى متعددة، واحياناً متناقضة، لا يجمعها سوى الحقد على العروبة او الخوف منها ومن عمقها المتمثل بالاسلام المتلاقي عبر العروبة بالمسيحية وكل معتقد آخر، بل الاسلام الذي يجد في العروبة "الفضاء الامثل لتجسيد ابرز فضائله" كما قال يوما سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله.
وحتى لا نتهم بالقاء اللوم دوماً على الخارج لنعفي ذواتنا من نقد قاس لاوضاعنا وبنانا وعلاقاتنا، وقد بات هذا النقد شرطاً رئيسياً من شروط نهوضنا من عثراتنا، فإن علينا ان نقرّ أن الحرب على العروبة ما كانت لتؤتي أكلها لو ان حركتنا العربية المعاصرة بقيت امينة لجملة الاسس والمبادئ التي تقوم عليها عروبتنا، بل ربما تتميز بها عن هويات قومية أخرى.
فالعروبة هي هوية تنطوي على مشروع للنهوض بكل عناصر النهوض الوحدوية والديمقراطية والاستقلالية والتنموية والتقدمية والحضارية، وان أي تفريط بعناصر هذا المشروع النهضوي ، أو بأحدها، يسهم بضرب الهوية ذاتها لأنه يربط العروبة بالعصبيات المتوترة او بالاستبداد او بالتبعية او بالتخلف او بالرجعية او بالخواء الروحي والحضاري.
بل ان العروبة كعروبة نهضوية تخرج الايديولوجيات واهلها من اسوار السجال المتوتر فيما بينها إلى مشروع جامع لكل ابناء الأمة المسكونين بالهم النهضوي إلى أي ايديولوجية انتموا، كما تخرج الشعارات المبسّطة التي يفرح بها رافعوها، ويطربون لوقعها، من ساحات تصادم مدمّر، بل ودام احياناً، بين اهلها لتضعها في سياق برامج محددة تعطي للشعار مضمونه وسياقه ومبرراته "فإذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم" (ص).
ولعل انتباه الحركة القومية العربية المعاصرة لهذا المفهوم النهضوي الجامع للعروبة، والذي عبرت عنه في مؤتمرات ومنتديات وملتقيات وشبكات، يكاد يعتبر الانجاز الاكبر لهذه الحركة التي نجحت، وعبر اطلاق المشروع النهضوي العربي الذي ساهم في صياغته مفكرون وباحثون ينتمون إلى التيارات الرئيسية في الأمة، ومن خلال مركز دراسات الوحدة العربية، في ان تقدم تعريفاً جديداً للقومي العربي لا يحصره بذوي الانتماءات القومية الكلاسيكية بل يجعله مفتوحاً امام كل نهضوي عربي أياً كانت خلفيته العقائدية او السياسية، وهكذا بدأت تتشكل أطر وجبهات وآليات تعاون وتنسيق على المستوى القومي، كما على المستويات الوطنية، تضم معظم قوى المجتمع الحية وشخصياته المتلاقية حول برامج محدودة ليست في النهاية إلا تفصيلاً دقيقاً لعناصر المشروع الحضاري الاشمل.
واذا كانت الحركة النهضوية المعاصرة قد نجحت في اطلاق مشروع جامع وأطر للتواصل والتلاقي والتحاور والتشاور والتفاعل بين قوى كانت خاضعة لحالات من الانقطاع والتباعد والتنافر والتناحر والتنابذ، بما فيها قوى داخل التيار الواحد، مما أعاد للعروبة النهضوية بعض بريقها وقدمها هوية جامعة في زمن التفتيت، ورافعة للوحدة والاستقلال والعدل والتقدم في عصر التشرذم والتبعية والظلم والتخلف، بل وجعلها جسراً بين ابناء الأمة، وبينهم وبين دول جوارهم الحضاري وسائر احرار العالم، فان مستقبل هذه العروبة النهضوية مرهون بقدرتها على تجسيد جملة رؤى والالتزام بها:
أولاً: في ديمقراطية العروبة وميثاقيتها
لم تكن صدفة ان يختار المفكر القومي العربي الراحل الدكتور عصمت سيف الدولة "الصحيفة" التي اعتمدها الرسول العربي الكريم(ص) لتنظيم علاقة المسلمين بغير المسلمين من ابناء المدينة المنورة (يثرب) التي هاجر اليها مع صحبه الابرار (ر) من مكة لتكون مدخله الى كتابه المميّز "في العروبة والاسلام" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، فقد كان – رحمه الله - يسعى إلى التأكيد على ميثاقية الاسلام والعروبة معاً، اذ ان "الصحيفة" هي ميثاق وعهد بين مسلمين عرب وعرب غير مسلمين، بل هي حلقة في مواثيق وعهود سبقتها او لحقت بها من حلف الفضول قبل الاسلام، إلى عهد نصارى نجران ، إلى العهدة العمرية وصولاً إلى الميثاق الوطني في لبنان، الذي لم يكن في عمقه وجوهره، اكثر من استعداد العروبة النهضوية لصياغة عهد يستوعب خصوصيات وحساسيات معروفة وان يتم الاستيعاب في هذا البلد الصغير تحت سقف العروبة وفي مواجهة الاستعمار الذي أفقده الميثاق الوطني، رغم كل ما رافق النظام السياسي الذي انبثق عنه من عيوب وثغرات، المقر والممر في لبنان. وهذا الاستيعاب هو الذي يفسّر أيضاً الاجواء التي رافقت اتفاق الطائف نفسه والاحتضان العربي له.
فالميثاقية التي تقوم عليها العروبة، والتي اختارها الرئيس جمال عبد الناصر اسماً "للميثاق" الذي اطلقه كمنهج للعمل وكاطار لحشد طاقات مصر والأمة لمجابهة التحديات بعد ردة الانفصال، والميثاقية اختارتها دمشق وبغداد عنواناً "لميثاق العمل القومي" الموؤود سريعاً عام 1979 كصيغة، لم تكتب لها الحياة، لوحدة بين العراق وسوريا كان مؤملاً منها لو قامت ان تغيّر وجه المنطقة بأسرها، لكن طغيان الحسابات الضيقة والصغائر والحساسيات على المصلحة القومية الاولى حال دون قيامها.
وحتى في محاولة تنظيم العلاقة مع الأكراد في العراق لم يكن بيان 11 مارس 1970 سوى ميثاق لتنظيم العلاقة ولإحترام الحقوق بين جماعات عراقية اصيلة.
واذا كانت المواطنة، بكل ما تنطوي عليه من مساواة بين الافراد دون النظر إلى المعتقد الديني او الجنس او اللون أو العرق أو المذهب، هي الترجمة الديمقراطية للعلاقة بين الدولة والمواطن فإن الميثاقية هي الاطار الديمقراطي لتنظيم العلاقة بين الجماعات المكونة للأمة بغض النظر عن العرق او الدين او المذهب او الجهة.
فالمحتوى الديمقراطي للعروبة النهضوية اذن هو الميثاقية بين الجماعات، والمواطنة بين الافراد، واي تزييف او تحوير او انحراف عن هذا المحتوي يضرب العروبة في الصميم ويسمح لاعدائها بالانقضاض عليها، كما يضرب وحدة الأمة، كما وحدة كياناتها الوطنية ذاتها.
ثانياً: العروبة بين التراث والعصر:
حين وضع المشروع النهضوي العربي "التجدد الحضاري" كأحد عناصره الست الكبرى، فانما كان يسعى إلى تحقيق موازنة خلاقة بين المخزون الحضاري والروحي الضخم لأمة، كالأمة العربية الضاربة جذورها في عمق التاريخ والحضارة الانسانية، وبين الآفاق الرحبة واللامحدودة التي يمثلها العصر بكل عطاءاته وخبرته واكتشافاته وتطوراته.
فالعروبة دون تراثها الحضاري والروحي العريق تصبح كالشجرة المعلقة بين الرياح والانواء تعصف بها في كل اتجاه، بل وتقتلعها في كثير من الاحيان، أما العروبة التي لا تفهم العصر من حولها فتبدو كقصر طلل مهجور يتآكل بنيانه وتسكنه الاشباح المخيفة ويهرب منه أهله الذين لم يعد يقنعهم مجرد التغني بالامجاد أو بالبكاء على الأطلال أو الاثنين معاً.
ان معادلة التوازن الخلاق والتكامل المبدع بين تراثنا والعصر ليس معادلة نظرية فحسب، بل انها تعكس نفسها في سلوكيات وآليات ومنهجيات نعتمدها في حياتنا، فلا نبقى اسرى حنين الى صيغ الماضي الجميلة فنفقد القدرة على رؤية ما يحيط بنا، ولا نصبح سجناء الانبهار بما حولنا من تقدم وتطور فنخجل بعمقنا التراثي والثقافي والحضاري.
ان هذه المعادلة تعكس نفسها مثلا في تعاملنا مع آليات عملنا السياسية بكل مستوياتها، الرسمية والشعبية، فنطمح إلى ان تكون مزيجاً من رؤى نابعة من قلب تجربتنا الخاصة كما من خلال تفاعلها مع تجارب الاخرين، وكما تعكس نفسها أيضاً في بلورة رؤى اقتصادية عربية تجمع بين مخزون ضخم من الفكر الاقتصادي العربي والاسلامي وبين افكار معاصرة يفرزها التطور الانساني، فنخرج من عُقد النقص تجاه الاخرين، كما نخرج من عقد العيش على انجازات الماضي دون أي اهتمام بتحديات الحاضر.
ثالثاً: العروبة والمقاومة:
ليست المقاومة عبر تاريخ امتنا مجرد وسيلة لتحرير الارض ومواجهة المحتل فحسب، بل هي مسار نهوض متكامل حيث ان امتنا ما تألقت يوماً إلا وهي تقاوم، وما قاومت يوماً إلا واكتشفت ذاتها وقدراتها وعبأت طاقاتها وامكاناتها.
فالمقاومة باستهدافها لاعداء الأمة انما تزيح من طريق الوحدة العربية عوائق وحواجز وقيوداً فرضها هؤلاء الاعداء، الا يشكل اضعاف العدو الصهيوني مثلاً قوة للعرب وقدرة على صنع التضامن والتكامل بينهم.
هل نستطيع مثلاً ان نقرأ قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 بمعزل عن انهيار إمبراطوريتي الاستعمار القديم، الفرنسية والبريطانية، على يد المقاومة الجزائرية التي انطلقت في 1 نوفمبر 1954، ثم جاءت الضربة القاضية في المقاومة المصرية والعربية للعدوان الثلاثي على مصر في نهاية أكتوبر عام 1956، وقد توحدت مصر وسوريا يومها في مواجهة العدوان قبل ان تتحدا دستورياً في الجمهورية العربية المتحدة.
بل هل نستطيع مثلاً ان نعزل التحولات التي شهدها لبنان في السنوات الاخيرة، وخصوصاً في مجال استعادة علاقته الطبيعية والأخوية مع سوريا عن نتائج تلك المعركة التاريخية الخالدة التي تصدت لها المقاومة المجاهدة المحتضنة من الشعب والجيش، للعدوان الصهيوني في تموز 2006، فوجد لبنان نفسه مرة أخرى على طريق علاقة صحيحة مع سوريا التي بقيت ثابتة على وفائها للمقاومة وللمبادئ الوطنية والقومية.
بل هل يمكن ان نقرأ بشكل خاص التحولات الدولية الضخمة والمتمثلة تحديداً بانكفاء متزايد للدور الامبراطوري الأمريكي في العالم عامة، وفي منطقتنا بخاصة، بمعزل عما واجهه هذا الدور الأمريكي بقواته ومشروعه وادواته من مقاومة بطولية استثنائية في العراق وافغانستان، خصوصاً حين ندرك ان مثل هذه التحولات والمتغيرات الضخمة قد تفتح الطريق واسعاً امام نهوض وحدوي عربي مشابه لذلك النهوض الذي رافق تحولات دولية مماثلة في أواسط الخمسينات من القرن العشرين، الأمر الذي يتطلب من القوى الحية في الامة الاستفادة من هذه التحولات للانطلاق في مسار النهضة والوحدة معاً، واطلاق مبادرات وحدوية متدرجة بين اقطار الامة كالتي طرحنا في مثل هذه الايام قبل عام (كاقامة سكة حديد تربط مشرق الوطن بمغربه، وكالغاء الدخول بتأشيرات بين الدول العربية، وكاعادة تشغيل خط الحجاز الحديدي بين اسطمبول ومكة، وكاقامة منطقة عربية للتجارة الحرة واتحاد جمركي عربي ومشاريع اقتصادية كبرى، ومنظومة عربية اقليمية للطاقة النووية، واخيراً اقامة مرصد للعمل العربي المشترك).
فالمقاومة اذن هي اداة تحرير ونهوض معاً، بل هي أداة توحيد أيضاً اذ لم تشهد أمتنا العربية لحظات توحدت فيها مشاعرها وتعبيراتها وحركة شارعها، كما هي اللحظات التي كان فيها أبناء الأمة يقاومون اعداءهم، ألم يكن تفاعل الأمة مع ثورة الجزائر وحركات التحرر في المغرب، وحرب السويس، ومعركة الكرامة وانتفاضات فلسطين، ونضال اليمن، وصمود العراق والسودان، وانتصارات المقاومة في لبنان، وغيرها وغيرها، اصدق تعبير عن قوة الوحدة التي ينضوي في ظلها مشروع المقاومة...
والمقاومة أيضاً هي أدة تعبئة حضارية وتقنية وعلمية، لأنها بسعيها للارتقاء إلى مواجهة عدو متفوق تقنياً كأعدائنا الصهاينة والمستعمرين، تجد نفسها مدعوة إلى تطوير اساليب عملها وتقنياتها سواء على المستوى العسكري او الامني او اللوجستي او الاعلامي او التعبوي، ألم نشهد أدلة على ذلك في معارك المقاومة في لبنان، ثم الم نلاحظ قدرة أبناء فلسطين، لا سيما في غزة، على تطوير قدراتهم رغم قسوة الحصار، ألم نسمع كيف ان المقاومة العراقية قد أنشأت هيئات خاصة بها لتطوير سلاحها والعبوات الناسفة، كما أساليب عملها وقتالها، على نحو جعلت من المحتل الأمريكي وادواته يلهثون وراء خطواتها.
أما البعد الثقافي للمقاومة فيكفي ان ندرك ان المضمون الابداعي للمقاومة، قراراً ومساراً ونمواً، بات مصدر اشعاع ابداعي في كل جوانب حياتنا الثقافية ولعلّ في ما يشاهده زوار متحف المقاومة في مليتا في الجنوب اللبناني ما يشير إلى عمق العلاقة بين ابداع المقاوم وابداع الفنان.
وحتى لو اضطرت الظروف حركات المقاومة ان تأخذ طابعاً محدوداًَ، جغرافياً او اجتماعياً أو عقائدياً، فان احتضان الأمة لابنائها المقاومين، وحمايتهم من اعدائهم، هما الضمانة في ان تستمر هذه المقاومة وتتسع آفاقها وتترسخ هويتها، وتنضج تجربتها، وتصحح اخطاءها لأن احد ابرز معادلات تاريخنا العربي تقول : امتنا إما ان تكون امة مقاومة او لا تكون، ومقاومتنا إما ان تكون عربية او تبقى محاصرة ومتعثرة.
ولقد حرص الملتقى العربي الدولي لدعم المقاومة الذي انعقد في بيروت مطلع هذا العام، وبمبادرة من المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن وبمشاركة العديد من المؤتمرات والاتحادات والهيئات العربية والاسلامية والعالمية ان يشكل اطاراً لهذه المعادلة حيث احتضان عربي واسلامي وعالمي للمقاومة، وحيث المقاومة العربية بعناوينها اللبنانية والفلسطينية والعراقية كانت حاضرة كما لم تحضر من قبل.
رابعاً: عروبة الكفاية والعدل:
الكفاية والعدل مصطلح استخدمه جمال عبد الناصر في "الميثاق" ليؤكد، كغيره من فصائل الحركة القومية العربية التي قامت قبل ثورة 23 يوليو وبعدها، لا سيما حزب البعث، على المضمون الاجتماعي والاقتصادي للنهضة القومية، ومع الترابط بين الوحدة والاشتراكية والحرية، وهو أمر يجب ان يعود اليوم ليكون حاضراً في ادبيات العروبيين النهضويين وبرامج عملهم واهتماماتهم وهمومهم ناهيك عن آليات عملهم وادوات تحركهم.
ان شعار "الخبز مع الكرامة" الذي ارتفع في الستينات ما زال صالحاً حتى الساعة، خصوصاً بعد ان انكشف للرأي العام العربي بوضوح ان سياسيات الاستسلام والتخاذل والتنكر للهوية القومية التي قامت بها انظمة وقيادات تحت ذريعة الرفاه والتقدم والعيش الرغيد لم تجلب لشعوبها سوى المزيد من الفقر والجوع والتخلّف، كما تبين للجميع أيضاً قصور مشاريع التنمية القطرية المعزولة عن افقها القومي وعجزها عن تلبية حاجات مجتمعاتها سواء كان القطر كبيراً أم صغيراً، غنياً أم فقيراً، كما تبين للجميع أيضاً ان لا مستقبل للتنمية في أقطار الأمة إلا حين تقترن بالسوق الواسعة، والمشاريع الكبرى وتكامل عناصر الانتاج من عمالة ورأسمال وتقنيات ومواد خام.
ان عروبة الكفاية والعدل تحتاج إلى برنامج متكامل على مستوى الأمة يربط بين التنمية والعدالة الاجتماعية، كما إلى برامج على المستوى القطري، خصوصاً بعد ان اتضح كذلك فشل الليبرالية الجديدة ووصفات الصناديق الدولية بإعادة الهيكلة والخصخصة وإهمال البعد الاجتماعي في معالجة المشكلات المطروحة.
خامساً: العروبة ودائرتها الحضارية وافقها العالمي:
في تاريخ الوطن العربي القديم والحديث، وفي استراتيجية موقعه الجغرافي ما يعطي للعرب بعداً حضارياً يتصل بكون أرضهم هي مهد الرسالات السماوية الكبرى، وبكونها جسر عبور بين قارات ثلاث كبرى وبكونها أيضاً خزاناً لموارد طبيعية وثروات ضخمة، الأمر الذي يبرز أهمية الدائرة الحضارية للأمة والتي تتمثل بدول جوار جغرافي تشترك معنا في الإسهام الحضاري، كما أهمية الأفق العالمي لقضايا هذه الأمة التي تتضح يوماً بعد يوم طبيعتها الإنسانية وبعدها الدولي.
فالقضية الفلسطينية مثلاً تنجح، رغم كل الصعوبات، في اختراق جدران الحصار الصهيوني والاستعماري من حولها كما أتضح من قوافل كسر الحصار على غزة وفي مقدمها اسطول الحرية، ومن اقبال عشرات الاف المتضامنين الاجانب على مواجهة الاستيطان والجدار في الداخل الفلسطيني ورمزهم الشهيدة الامريكية راشيل كوري، ومن ملايين المقاطعين الاوروبيين لنظام عنصري صهيوني على غرار ما كان عليه الامر مع نظام "الابارتايد" في جنوب افريقيا في ظروف سابقة واخرها قرار ستة ملايين ونصف عامل بريطاني في مؤتمر نقاباتهم باعلان المقاطعة الاقتصادية للكيان العنصري الصهيوني.
ان تنمية العلاقات داخل الدائرة الحضارية لأمتنا تتطلب جهداً دؤوباً ومنظماً وتراكمياً يقوم على فكرة التواصل والحوار من جهة، تواصل يحول دون نجاح المخططات الرامية إلى توجيه البوصلة العربية بغير اتجاهها الصحيح أي باتجاه العداء للمشروع الصهيوني – الاستعماري، وحوار يقود إلى مصارحة ومكاشفة ومراجعة صادقة لمجمل هذه العلاقات لكي يتم بناؤها على أسس وقواعد من الروابط الاخوية والمصالح المشتركة، والاحترام المتبادل لسيادة كل دولة، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
في هذا الاطار ينبغي على العروبيين النهضويين دعم مشروع السوق الرباعية المشتركة التي تم الاعلان عن تأسيسها في اسطمبول قبل اسابيع بين تركيا وسوريا ولبنان والاردن سواء لجهة توسيع الدول المشاركة فيها لتصبح سوقاً مشرقية عربية اسلامية واسعة، أو لجهة تطويرها لتصبح منظومة أقليمية فاعلة على غرار مثيلاتها في العالم كما ينبغي أيضاً على ابناء الامة ان يسعوا، رغم كل الالتباسات المعروفة، الى بناء اوثق العلاقة مع الجمهورية الاسلامية في ايران التي يبقى ان نذكر ان اول ما قامت به هو طرد سفارة العدو من بلادها وهي التي ما تزال تدعم مقاومتنا لهذا العدو حتى الساعة. ففي ظل علاقات جوار وحوار وثيقة يمكن للعرب ان يعالجوا كل خلاف او اختلاف او تباين في الرؤية او الممارسة بروح من المصارحة والمكاشفة.
ومن هنا فنحن نأمل ان تتوفر ظروف النجاح لمؤتمر دائم عربي – تركي – ايراني يحضر له المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن على ان ينعقد في دمشق ، المركز الطبيعي لهذا الحوار، ويسعى لتوثيق العلاقات بين الشخصيات الفاعلة والقوى الحية في الأمم الثلاث ويكون إطاراً للحوار والتعاون والمعالجة والمصارحة بين هذه الامم.
وفي الاطار ذاته فإن المركز أيضاً إلى اقامة مؤتمر دائم مماثل بين العرب والافارقة في الخرطوم، المركز الطبيعي لهذا الحوار أيضاً ، هدفه توثيق الصلة على مستوى القوى الفاعلة والشخصيات البارزة في الوطن العربي والافريقي.
اما على المستوى العالمي، فلا بد من مواكبة هذا الاتساع الهائل في التضامن مع قضايانا في فلسطين والعراق سواء عبر تحركات داخل دول العالم، او عبر تحركات عالمية باتجاهنا من اوروبا وافريقيا والامريكيتين ومؤخراً من العمق الاسيوي باسم المبادرة الآسيوية لكسر الحصار على غزة التي ستجتمع حملتها في الشهر القادم في العاصمة اللبنانية بيروت، المركز الطبيعي لمثل هذه الاجتماعات.
واذا كانت الملتقيات العربية الدولية التي انعقدت في السنوات الثلاث الماضية من اجل القدس وحق العودة والجولان والمقاومة، وقريباً في الجزائر من اجل الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال وآخر في بيروت لملاحقة قانونية لمجرمي الحرب في العراق قد أبرزت تنامي شبكة التواصل العربية العالمية، فإن تخصيص دورة المنتدى الاجتماعي العالمي في داكار - السنغال لهذا العام لكي تكون دورة فلسطينهو انتصار آخر لقضيتنا تماماً كما هو اختيار فلسطين اسماً لاوراق المنتدى التربوي العالمي هذا العام التي ستنعقد في القدس ورام الله وغزة وبيروت ويشارك فيها كبار التربويين العرب والعالميين.
ان الاهتمام بالبعد العالمي للقضية العربية لا يوفر لنا سنداً كبيراً فحسب، ولا يجرد العدو من اهم عناصر قوته فقط، بل انه أيضاً يوسع افاقنا ويرتقي بخطابنا وممارساتنا إلى مستوى من الترفع والتعالي والعقلانية يبعدنا عن الاسفاف والغلّو والانفعال والارتجال.
سادساً: عروبة الشباب:
لا يمكن لعروبتنا النهضوية ان تكون مشروعاً مستقبليا إلا اذ نهض بها الشباب بشكل خاص في اطار من التوازن الدقيق بين تجربة الشيوخ وخبرتهم وحنكتهم، وبين همة الشباب واندفاعهم وابداعهم وهو أمر يتطلب بذل كل الجهود الممكنة مع الشباب، ومن خلالهم لتطوير وسائل إشراك الشباب في هموم الأمة وسبل ومعالجتها.
في هذا الاطار تبرز مخيمات الشباب القومي العربي التي أنطلقت عام 1990، وما تزال مستمرة حتى اليوم، وكذلك مخميات شباب الاحزاب العربية، وشباب من اجل القدس، ومخيمات شبابية عديدة على المستوى القطري والأممي، لكننا في المنتدى القومي العربي والمركز العربي الدولي للتواصل والتضامن قررنا ان نخطو خطوة هامة إلى الامام عبر تأسيس منتدى للتواصل الشبابي العربي يكون عبر ندوته الفكرية السنوية في 15 تشرين الأول/أكتوبر مدخلاً لتأسيس مؤتمر قومي للشباب العربي ينعقد كل عام ويناقش قضايا الأمة وسبل مواجهة التحديات.
معن بشور
- المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية، رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن، الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي، الرئيس المؤسس للمنتدى القومي العربي، منسق عام لجان مناصرة فلسطين والعراق.
لم يكن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشر به الصهاينة أولاً، واعتمدته إدارات أمريكية متلاحقة، ومهّد له منظرون أمريكيون كصموئيل هنتجتون في حديثه عن "صدام الحضارات"، وقبله برنارد لويس في مشروعه لتقسيم الوطن العربي إلى دويلات عرقية وطائفية ومذهبية، هو المشروع الهجومي الأول على الوحدة العربية، فقد سبقته معاهدة سايكس – بيكو الشهيرة أبان الحرب العالمية الأولى، ووعد بلفور البريطاني الذي جاء ترجمة حرفية لمشروع فصل مشرق الوطن العربي عن مغربه الذي دعا إليه عام 1840 رئيس وزراء بريطانيا بالمرستون بعد تقدم جيوش محمد علي وابنه إبراهيم باشا من مصر إلى بلاد الشام مع كل ما أثاره ذاك التقدم من مخاوف استعمارية من قيام دولة عربية حدودها حيث يتحدث الناس بالعربية كما قال يومها إبراهيم باشا.
لقد اكتشف إبراهيم باشا عبر حس تاريخي واستراتيجي مرهف ، وهو الألباني الأصل، إن العروبة هي المدى الحيوي لمصر وان أمن وادي النيل يمتد شمالاً إلى فلسطين وسوريا ولبنان وشرق الأردن والعراق والجزيرة العربية، وهي حقائق اكتشفها قبله، قطز والظاهر بيبرس ونور الدين وصلاح الدين، بل هي حقائق ما تجاهلها يوماً حاكم مصري إلا ووضع بلاده في مهب الرياح وعرّض أمنها، كل أمنها بما فيه الأمن المائي، لأخطار محدقة.
من ابرز الهجمات أيضاً على الوحدة العربية التي هي تجسيد للرابطة القومية العربية، كانت مؤامرة الانفصال المشؤوم في مثل هذه الأيام قبل 59 عاماً لضرب أول وحدة عربية بين مصر وسوريا لا لأن تلك الوحدة جاءت فعل تمرد ثوري على سايكس – بيكو فحسب، بل لأن الانفصال هو تحقيق للتجزئة، أي "جعلها حقيقة وحقا"، - والقول لمؤسس البعث ميشيل عفلق بعد الانفصال - كما نرى هذه الأيام وبعد ستة عقود، من توسع دعوات الانفصال والتقسيم وهي تتوالى في العديد من أقطار الأمة وبما يهدد وحدة الكيانات الوطنية ذاتها ولعل الفصل السوداني القادم مع الاستفتاء هو من أخطرها وكذلك ما يتعرض له اليمن أيضاً من دعوات للانفصال.
ومن ابرز الهجمات على العروبة كانت تلك التي استهدفت مسيرة جمال عبد الناصر الوحدوية التحررية التقدمية على مدى 18 عاماً (1952-1970)، عاشها القائد الراحل قائداً لمصر وللأمة ومحركاً رئيسياً لحركات التحرر في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهي هجمة استهدفت كذلك الحركات القومية العربية وفي مقدمها حزب البعث العربي الاشتراكي، مستفيدة في استهدافها هذا، دون شك، من أخطاء وخطايا وقعت بها المسيرة القومية العربية بكل فصائلها منذ خمسينيات القرن الماضي، وهي أخطاء وخطايا لا بد من مراجعة نقدية لها، مراجعة تكون جريئة وصادقة ومترفعة عن الرواسب والحساسيات من اجل أي نهوض قومي جديد.
ظن كثيرون إن تراجع المسيرة القومية العربية وتعثر حركة الوحدة العربية سيسمحان ببناء "قطريات" عربية قادرة على النهوض بكياناتها وتوفير الأمن والوحدة والتنمية والعدالة والاستقلال الوطني لبلدانها، وازدهرت في ظل هذه الأوهام نظريات وسياسات ومقولات تمجد القطرية على حساب الانتماء القومي، وتشيد بالتقوقع على حساب التكامل الوحدوي، فارتكبوا في ذلك الخطأ ذاته الذي وقع فيه من ظن يوماً انه بتخلصه من دولة الخلافة الإسلامية سيقيم دولة عربية موحدة، غافلاً بذلك عن أن المستعمر كعادته، يعد الشعوب بكل ما تحلم به، فيما تعمل مخططاته على إحكام السيطرة عليها، ووضع اليد على مقدراتها، وتفتيت وحدة مجتمعاتها، ألا يعيد التاريخ نفسه هذه الأيام ومع ضمانات قيل إن الراعي الأمريكي قد وعد بها المفاوض الفلسطيني، وهي وعود تذكرنا، بوعود خادعة قدمها بوش للعراقيين عشية احتلال بلدهم.
ولقد نسي هؤلاء جميعاً انه كما أن للوحدة منطقها وآلياتها ونهجها الذي لا يتجزأ، فان للتجزئة بالمقابل قوانينها التي تواصل الفتك بالوحدة من أعلى مراتبها حتى اصغر خلاياها.
ونسي هؤلاء مثلاً أن الوحدة الإسلامية هي ضمانة الوحدة القومية، وان الوحدة القومية هي ضمانة الوحدة الوطنية، وان الوحدة الوطنية هي الأخرى ضمانة وحدة كل مكونات المجتمع الوطني التي لم يحاول مرة مدّعو زعامتها منها مرة أن يبنوا لجماعتهم سياجاً خاصاً بها، عرقياً كان أم طائفياً أو مذهبياً أو حتى جهوياً ومناطقياً، إلا وكانت تجد هذه الجماعة نفسها منقادة نحو انتحار جماعي يودي بها وبمصالحها وبخصوصياتها فيما هي تعتقد أنها تحصن نفسها وتصون ذاتها. والأمثلة على هذه المعادلة كثيرة، ولعلنا في لبنان عشنا ونعيش حالات تؤكد ذلك.
لذلك، فان القانون الرئيسي الذي يحكم تاريخ هذه الأمة هو قانون الصراع بين الوحدة والتضامن بكل مستوياتهما ومراتبهما من جهة، وبين التجزئة والتفتيت بكل تجلياتهما، أما كل الظواهر الأخرى التي شهدتها المنطقة فإنما كانت تنمو في قلب هذا الصراع أحيانا أو على هامشه أحياناً أخرى، تغذيه أحياناً، وتتغذى منه أحياناً كثيرة.
فالاستعمار والاحتلال الأجنبي والمشروع العنصري الصهيوني ليسوا حلفاء التجزئة وعاملين على ترسيخها وتعميقها بالتفتيت فحسب، بل ان التجزئة ومعها التفتيت هما الاحتياطي الاستراتيجي لهؤلاء الأعداء، بل هما التربة الخصبة التي تنمو فيها كل مشاريعهم للهيمنة والسيطرة ونهب الموارد والخيرات.
وكذلك الاستبداد والاستغلال والتخلّف ليسوا مجرد حراس لهذه التجزئة، ورديفها التفتيت، فحسب، بل أن هذه التجزئة، ومعها التفتيت، هما الإطار الأمثل للمستبد لكي يستبد بشعبه متلاعباً بمكونات مجتمعه مثيراً للتناقضات بينها لصالحه، كما إنهما الأرض الأخصب لكي ينهش المستغلون والمحتكرون أظافرهم الدامية في ارزاق الناس وحقوقهم، بل هما البيئة النموذجية لكي يبقى المتخلّف متخلفاً، والأمي أمياً، والفقير فقيراً.
ومن يعود إلى الأرقام والإحصاءات التي تقدمها تقارير التنمية البشرية العربية يكتشف حجم المعاناة التي تعيشها أمة كأمتنا على مختلف الصعد لأنها في غياب وحدتها انما تفقد الأمن والعدل الاجتماعي والتنمية المستقلة معاًَ، ناهيك عن فقدانها لمقومات السيادة الحقيقية، والاستقلال الناجز والمشاركة الشعبية الصحيحة بالإضافة إلى زعزعة ركائز هويتها وثقافتها ولغتها وحضورها الحضاري بين الأمم.
وإلا كيف نفسّر ان أمتنا بما تمتلك من اشراقات الماضي وأمجاده، وتضحيات الحاضر وإمكانياته، لا تستطيع ان تواكب العصر، ولا أن تحاكي دولاً عدة مماثلة مجاورة، او بعيدة، في تقدمها ونهضتها، إلا اذا انتبهنا إلى ان المقاربة الاكثر واقعية لتفسير هذه الظاهرة هي اننا حُرمنا بفعل الاحتلال الخارجي والاختلال الداخلي، وكلاهما يكملّ الآخر ويغذيه، من امتلاك قانون العصر وهو قانون التكتلات الكبرى بين أمم قفزت حتى فوق الحدود القومية ، وتجاوزت الحروب التاريخية، إلى رحاب المنظومات القارية او ما شابه.
إنها مفارقة العصر دون شك، حيث تتقدم امم العالم كله إلى منظومات التكامل الاستراتيجي بكل عناصره السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثفافية، فيما العرب وحدهم بين الشعوب ينحدرون في مهاوي التجزئة والتقسيم والتفتيت.
قد تختلف الاجتهادات في تفسير هذه المفارقة الكبرى، فيعزو البعض هذه المفارقة إلى وطأة النفوذ الاجنبي، والبعض الآخر إلى تأثير الاستبداد الداخلي. ويتحدث البعض عن فجوة حضارية لا يمكن للعرب ردمها، وقد يكون لكل اجتهاد وجاهته ومنطقه، لكن أيّاً من هذه الاجتهادات لا يستطيع ان يتجاهل مصدراً مركزياً لهذا الخلل، وهو الحصار الشديد والمتصاعد، بل والحرب المستمرة على كل المستويات للرابطة الجامعة للعرب بافكارها ورموزها والقوى الحاملة لرايتها، وبل الحرب على العروبة بكل تجلياتها الثقافية والحضارية ومخزونها الروحي والتراثي، ومداها التاريخي والاستراتيجي، وآفاقها الاقتصادية والاجتماعية، وهي حرب ثقافية وسياسية واعلامية وامنية، وحتى عسكرية، تنخرط فيها قوى متعددة، واحياناً متناقضة، لا يجمعها سوى الحقد على العروبة او الخوف منها ومن عمقها المتمثل بالاسلام المتلاقي عبر العروبة بالمسيحية وكل معتقد آخر، بل الاسلام الذي يجد في العروبة "الفضاء الامثل لتجسيد ابرز فضائله" كما قال يوما سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله.
وحتى لا نتهم بالقاء اللوم دوماً على الخارج لنعفي ذواتنا من نقد قاس لاوضاعنا وبنانا وعلاقاتنا، وقد بات هذا النقد شرطاً رئيسياً من شروط نهوضنا من عثراتنا، فإن علينا ان نقرّ أن الحرب على العروبة ما كانت لتؤتي أكلها لو ان حركتنا العربية المعاصرة بقيت امينة لجملة الاسس والمبادئ التي تقوم عليها عروبتنا، بل ربما تتميز بها عن هويات قومية أخرى.
فالعروبة هي هوية تنطوي على مشروع للنهوض بكل عناصر النهوض الوحدوية والديمقراطية والاستقلالية والتنموية والتقدمية والحضارية، وان أي تفريط بعناصر هذا المشروع النهضوي ، أو بأحدها، يسهم بضرب الهوية ذاتها لأنه يربط العروبة بالعصبيات المتوترة او بالاستبداد او بالتبعية او بالتخلف او بالرجعية او بالخواء الروحي والحضاري.
بل ان العروبة كعروبة نهضوية تخرج الايديولوجيات واهلها من اسوار السجال المتوتر فيما بينها إلى مشروع جامع لكل ابناء الأمة المسكونين بالهم النهضوي إلى أي ايديولوجية انتموا، كما تخرج الشعارات المبسّطة التي يفرح بها رافعوها، ويطربون لوقعها، من ساحات تصادم مدمّر، بل ودام احياناً، بين اهلها لتضعها في سياق برامج محددة تعطي للشعار مضمونه وسياقه ومبرراته "فإذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم" (ص).
ولعل انتباه الحركة القومية العربية المعاصرة لهذا المفهوم النهضوي الجامع للعروبة، والذي عبرت عنه في مؤتمرات ومنتديات وملتقيات وشبكات، يكاد يعتبر الانجاز الاكبر لهذه الحركة التي نجحت، وعبر اطلاق المشروع النهضوي العربي الذي ساهم في صياغته مفكرون وباحثون ينتمون إلى التيارات الرئيسية في الأمة، ومن خلال مركز دراسات الوحدة العربية، في ان تقدم تعريفاً جديداً للقومي العربي لا يحصره بذوي الانتماءات القومية الكلاسيكية بل يجعله مفتوحاً امام كل نهضوي عربي أياً كانت خلفيته العقائدية او السياسية، وهكذا بدأت تتشكل أطر وجبهات وآليات تعاون وتنسيق على المستوى القومي، كما على المستويات الوطنية، تضم معظم قوى المجتمع الحية وشخصياته المتلاقية حول برامج محدودة ليست في النهاية إلا تفصيلاً دقيقاً لعناصر المشروع الحضاري الاشمل.
واذا كانت الحركة النهضوية المعاصرة قد نجحت في اطلاق مشروع جامع وأطر للتواصل والتلاقي والتحاور والتشاور والتفاعل بين قوى كانت خاضعة لحالات من الانقطاع والتباعد والتنافر والتناحر والتنابذ، بما فيها قوى داخل التيار الواحد، مما أعاد للعروبة النهضوية بعض بريقها وقدمها هوية جامعة في زمن التفتيت، ورافعة للوحدة والاستقلال والعدل والتقدم في عصر التشرذم والتبعية والظلم والتخلف، بل وجعلها جسراً بين ابناء الأمة، وبينهم وبين دول جوارهم الحضاري وسائر احرار العالم، فان مستقبل هذه العروبة النهضوية مرهون بقدرتها على تجسيد جملة رؤى والالتزام بها:
أولاً: في ديمقراطية العروبة وميثاقيتها
لم تكن صدفة ان يختار المفكر القومي العربي الراحل الدكتور عصمت سيف الدولة "الصحيفة" التي اعتمدها الرسول العربي الكريم(ص) لتنظيم علاقة المسلمين بغير المسلمين من ابناء المدينة المنورة (يثرب) التي هاجر اليها مع صحبه الابرار (ر) من مكة لتكون مدخله الى كتابه المميّز "في العروبة والاسلام" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، فقد كان – رحمه الله - يسعى إلى التأكيد على ميثاقية الاسلام والعروبة معاً، اذ ان "الصحيفة" هي ميثاق وعهد بين مسلمين عرب وعرب غير مسلمين، بل هي حلقة في مواثيق وعهود سبقتها او لحقت بها من حلف الفضول قبل الاسلام، إلى عهد نصارى نجران ، إلى العهدة العمرية وصولاً إلى الميثاق الوطني في لبنان، الذي لم يكن في عمقه وجوهره، اكثر من استعداد العروبة النهضوية لصياغة عهد يستوعب خصوصيات وحساسيات معروفة وان يتم الاستيعاب في هذا البلد الصغير تحت سقف العروبة وفي مواجهة الاستعمار الذي أفقده الميثاق الوطني، رغم كل ما رافق النظام السياسي الذي انبثق عنه من عيوب وثغرات، المقر والممر في لبنان. وهذا الاستيعاب هو الذي يفسّر أيضاً الاجواء التي رافقت اتفاق الطائف نفسه والاحتضان العربي له.
فالميثاقية التي تقوم عليها العروبة، والتي اختارها الرئيس جمال عبد الناصر اسماً "للميثاق" الذي اطلقه كمنهج للعمل وكاطار لحشد طاقات مصر والأمة لمجابهة التحديات بعد ردة الانفصال، والميثاقية اختارتها دمشق وبغداد عنواناً "لميثاق العمل القومي" الموؤود سريعاً عام 1979 كصيغة، لم تكتب لها الحياة، لوحدة بين العراق وسوريا كان مؤملاً منها لو قامت ان تغيّر وجه المنطقة بأسرها، لكن طغيان الحسابات الضيقة والصغائر والحساسيات على المصلحة القومية الاولى حال دون قيامها.
وحتى في محاولة تنظيم العلاقة مع الأكراد في العراق لم يكن بيان 11 مارس 1970 سوى ميثاق لتنظيم العلاقة ولإحترام الحقوق بين جماعات عراقية اصيلة.
واذا كانت المواطنة، بكل ما تنطوي عليه من مساواة بين الافراد دون النظر إلى المعتقد الديني او الجنس او اللون أو العرق أو المذهب، هي الترجمة الديمقراطية للعلاقة بين الدولة والمواطن فإن الميثاقية هي الاطار الديمقراطي لتنظيم العلاقة بين الجماعات المكونة للأمة بغض النظر عن العرق او الدين او المذهب او الجهة.
فالمحتوى الديمقراطي للعروبة النهضوية اذن هو الميثاقية بين الجماعات، والمواطنة بين الافراد، واي تزييف او تحوير او انحراف عن هذا المحتوي يضرب العروبة في الصميم ويسمح لاعدائها بالانقضاض عليها، كما يضرب وحدة الأمة، كما وحدة كياناتها الوطنية ذاتها.
ثانياً: العروبة بين التراث والعصر:
حين وضع المشروع النهضوي العربي "التجدد الحضاري" كأحد عناصره الست الكبرى، فانما كان يسعى إلى تحقيق موازنة خلاقة بين المخزون الحضاري والروحي الضخم لأمة، كالأمة العربية الضاربة جذورها في عمق التاريخ والحضارة الانسانية، وبين الآفاق الرحبة واللامحدودة التي يمثلها العصر بكل عطاءاته وخبرته واكتشافاته وتطوراته.
فالعروبة دون تراثها الحضاري والروحي العريق تصبح كالشجرة المعلقة بين الرياح والانواء تعصف بها في كل اتجاه، بل وتقتلعها في كثير من الاحيان، أما العروبة التي لا تفهم العصر من حولها فتبدو كقصر طلل مهجور يتآكل بنيانه وتسكنه الاشباح المخيفة ويهرب منه أهله الذين لم يعد يقنعهم مجرد التغني بالامجاد أو بالبكاء على الأطلال أو الاثنين معاً.
ان معادلة التوازن الخلاق والتكامل المبدع بين تراثنا والعصر ليس معادلة نظرية فحسب، بل انها تعكس نفسها في سلوكيات وآليات ومنهجيات نعتمدها في حياتنا، فلا نبقى اسرى حنين الى صيغ الماضي الجميلة فنفقد القدرة على رؤية ما يحيط بنا، ولا نصبح سجناء الانبهار بما حولنا من تقدم وتطور فنخجل بعمقنا التراثي والثقافي والحضاري.
ان هذه المعادلة تعكس نفسها مثلا في تعاملنا مع آليات عملنا السياسية بكل مستوياتها، الرسمية والشعبية، فنطمح إلى ان تكون مزيجاً من رؤى نابعة من قلب تجربتنا الخاصة كما من خلال تفاعلها مع تجارب الاخرين، وكما تعكس نفسها أيضاً في بلورة رؤى اقتصادية عربية تجمع بين مخزون ضخم من الفكر الاقتصادي العربي والاسلامي وبين افكار معاصرة يفرزها التطور الانساني، فنخرج من عُقد النقص تجاه الاخرين، كما نخرج من عقد العيش على انجازات الماضي دون أي اهتمام بتحديات الحاضر.
ثالثاً: العروبة والمقاومة:
ليست المقاومة عبر تاريخ امتنا مجرد وسيلة لتحرير الارض ومواجهة المحتل فحسب، بل هي مسار نهوض متكامل حيث ان امتنا ما تألقت يوماً إلا وهي تقاوم، وما قاومت يوماً إلا واكتشفت ذاتها وقدراتها وعبأت طاقاتها وامكاناتها.
فالمقاومة باستهدافها لاعداء الأمة انما تزيح من طريق الوحدة العربية عوائق وحواجز وقيوداً فرضها هؤلاء الاعداء، الا يشكل اضعاف العدو الصهيوني مثلاً قوة للعرب وقدرة على صنع التضامن والتكامل بينهم.
هل نستطيع مثلاً ان نقرأ قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 بمعزل عن انهيار إمبراطوريتي الاستعمار القديم، الفرنسية والبريطانية، على يد المقاومة الجزائرية التي انطلقت في 1 نوفمبر 1954، ثم جاءت الضربة القاضية في المقاومة المصرية والعربية للعدوان الثلاثي على مصر في نهاية أكتوبر عام 1956، وقد توحدت مصر وسوريا يومها في مواجهة العدوان قبل ان تتحدا دستورياً في الجمهورية العربية المتحدة.
بل هل نستطيع مثلاً ان نعزل التحولات التي شهدها لبنان في السنوات الاخيرة، وخصوصاً في مجال استعادة علاقته الطبيعية والأخوية مع سوريا عن نتائج تلك المعركة التاريخية الخالدة التي تصدت لها المقاومة المجاهدة المحتضنة من الشعب والجيش، للعدوان الصهيوني في تموز 2006، فوجد لبنان نفسه مرة أخرى على طريق علاقة صحيحة مع سوريا التي بقيت ثابتة على وفائها للمقاومة وللمبادئ الوطنية والقومية.
بل هل يمكن ان نقرأ بشكل خاص التحولات الدولية الضخمة والمتمثلة تحديداً بانكفاء متزايد للدور الامبراطوري الأمريكي في العالم عامة، وفي منطقتنا بخاصة، بمعزل عما واجهه هذا الدور الأمريكي بقواته ومشروعه وادواته من مقاومة بطولية استثنائية في العراق وافغانستان، خصوصاً حين ندرك ان مثل هذه التحولات والمتغيرات الضخمة قد تفتح الطريق واسعاً امام نهوض وحدوي عربي مشابه لذلك النهوض الذي رافق تحولات دولية مماثلة في أواسط الخمسينات من القرن العشرين، الأمر الذي يتطلب من القوى الحية في الامة الاستفادة من هذه التحولات للانطلاق في مسار النهضة والوحدة معاً، واطلاق مبادرات وحدوية متدرجة بين اقطار الامة كالتي طرحنا في مثل هذه الايام قبل عام (كاقامة سكة حديد تربط مشرق الوطن بمغربه، وكالغاء الدخول بتأشيرات بين الدول العربية، وكاعادة تشغيل خط الحجاز الحديدي بين اسطمبول ومكة، وكاقامة منطقة عربية للتجارة الحرة واتحاد جمركي عربي ومشاريع اقتصادية كبرى، ومنظومة عربية اقليمية للطاقة النووية، واخيراً اقامة مرصد للعمل العربي المشترك).
فالمقاومة اذن هي اداة تحرير ونهوض معاً، بل هي أداة توحيد أيضاً اذ لم تشهد أمتنا العربية لحظات توحدت فيها مشاعرها وتعبيراتها وحركة شارعها، كما هي اللحظات التي كان فيها أبناء الأمة يقاومون اعداءهم، ألم يكن تفاعل الأمة مع ثورة الجزائر وحركات التحرر في المغرب، وحرب السويس، ومعركة الكرامة وانتفاضات فلسطين، ونضال اليمن، وصمود العراق والسودان، وانتصارات المقاومة في لبنان، وغيرها وغيرها، اصدق تعبير عن قوة الوحدة التي ينضوي في ظلها مشروع المقاومة...
والمقاومة أيضاً هي أدة تعبئة حضارية وتقنية وعلمية، لأنها بسعيها للارتقاء إلى مواجهة عدو متفوق تقنياً كأعدائنا الصهاينة والمستعمرين، تجد نفسها مدعوة إلى تطوير اساليب عملها وتقنياتها سواء على المستوى العسكري او الامني او اللوجستي او الاعلامي او التعبوي، ألم نشهد أدلة على ذلك في معارك المقاومة في لبنان، ثم الم نلاحظ قدرة أبناء فلسطين، لا سيما في غزة، على تطوير قدراتهم رغم قسوة الحصار، ألم نسمع كيف ان المقاومة العراقية قد أنشأت هيئات خاصة بها لتطوير سلاحها والعبوات الناسفة، كما أساليب عملها وقتالها، على نحو جعلت من المحتل الأمريكي وادواته يلهثون وراء خطواتها.
أما البعد الثقافي للمقاومة فيكفي ان ندرك ان المضمون الابداعي للمقاومة، قراراً ومساراً ونمواً، بات مصدر اشعاع ابداعي في كل جوانب حياتنا الثقافية ولعلّ في ما يشاهده زوار متحف المقاومة في مليتا في الجنوب اللبناني ما يشير إلى عمق العلاقة بين ابداع المقاوم وابداع الفنان.
وحتى لو اضطرت الظروف حركات المقاومة ان تأخذ طابعاً محدوداًَ، جغرافياً او اجتماعياً أو عقائدياً، فان احتضان الأمة لابنائها المقاومين، وحمايتهم من اعدائهم، هما الضمانة في ان تستمر هذه المقاومة وتتسع آفاقها وتترسخ هويتها، وتنضج تجربتها، وتصحح اخطاءها لأن احد ابرز معادلات تاريخنا العربي تقول : امتنا إما ان تكون امة مقاومة او لا تكون، ومقاومتنا إما ان تكون عربية او تبقى محاصرة ومتعثرة.
ولقد حرص الملتقى العربي الدولي لدعم المقاومة الذي انعقد في بيروت مطلع هذا العام، وبمبادرة من المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن وبمشاركة العديد من المؤتمرات والاتحادات والهيئات العربية والاسلامية والعالمية ان يشكل اطاراً لهذه المعادلة حيث احتضان عربي واسلامي وعالمي للمقاومة، وحيث المقاومة العربية بعناوينها اللبنانية والفلسطينية والعراقية كانت حاضرة كما لم تحضر من قبل.
رابعاً: عروبة الكفاية والعدل:
الكفاية والعدل مصطلح استخدمه جمال عبد الناصر في "الميثاق" ليؤكد، كغيره من فصائل الحركة القومية العربية التي قامت قبل ثورة 23 يوليو وبعدها، لا سيما حزب البعث، على المضمون الاجتماعي والاقتصادي للنهضة القومية، ومع الترابط بين الوحدة والاشتراكية والحرية، وهو أمر يجب ان يعود اليوم ليكون حاضراً في ادبيات العروبيين النهضويين وبرامج عملهم واهتماماتهم وهمومهم ناهيك عن آليات عملهم وادوات تحركهم.
ان شعار "الخبز مع الكرامة" الذي ارتفع في الستينات ما زال صالحاً حتى الساعة، خصوصاً بعد ان انكشف للرأي العام العربي بوضوح ان سياسيات الاستسلام والتخاذل والتنكر للهوية القومية التي قامت بها انظمة وقيادات تحت ذريعة الرفاه والتقدم والعيش الرغيد لم تجلب لشعوبها سوى المزيد من الفقر والجوع والتخلّف، كما تبين للجميع أيضاً قصور مشاريع التنمية القطرية المعزولة عن افقها القومي وعجزها عن تلبية حاجات مجتمعاتها سواء كان القطر كبيراً أم صغيراً، غنياً أم فقيراً، كما تبين للجميع أيضاً ان لا مستقبل للتنمية في أقطار الأمة إلا حين تقترن بالسوق الواسعة، والمشاريع الكبرى وتكامل عناصر الانتاج من عمالة ورأسمال وتقنيات ومواد خام.
ان عروبة الكفاية والعدل تحتاج إلى برنامج متكامل على مستوى الأمة يربط بين التنمية والعدالة الاجتماعية، كما إلى برامج على المستوى القطري، خصوصاً بعد ان اتضح كذلك فشل الليبرالية الجديدة ووصفات الصناديق الدولية بإعادة الهيكلة والخصخصة وإهمال البعد الاجتماعي في معالجة المشكلات المطروحة.
خامساً: العروبة ودائرتها الحضارية وافقها العالمي:
في تاريخ الوطن العربي القديم والحديث، وفي استراتيجية موقعه الجغرافي ما يعطي للعرب بعداً حضارياً يتصل بكون أرضهم هي مهد الرسالات السماوية الكبرى، وبكونها جسر عبور بين قارات ثلاث كبرى وبكونها أيضاً خزاناً لموارد طبيعية وثروات ضخمة، الأمر الذي يبرز أهمية الدائرة الحضارية للأمة والتي تتمثل بدول جوار جغرافي تشترك معنا في الإسهام الحضاري، كما أهمية الأفق العالمي لقضايا هذه الأمة التي تتضح يوماً بعد يوم طبيعتها الإنسانية وبعدها الدولي.
فالقضية الفلسطينية مثلاً تنجح، رغم كل الصعوبات، في اختراق جدران الحصار الصهيوني والاستعماري من حولها كما أتضح من قوافل كسر الحصار على غزة وفي مقدمها اسطول الحرية، ومن اقبال عشرات الاف المتضامنين الاجانب على مواجهة الاستيطان والجدار في الداخل الفلسطيني ورمزهم الشهيدة الامريكية راشيل كوري، ومن ملايين المقاطعين الاوروبيين لنظام عنصري صهيوني على غرار ما كان عليه الامر مع نظام "الابارتايد" في جنوب افريقيا في ظروف سابقة واخرها قرار ستة ملايين ونصف عامل بريطاني في مؤتمر نقاباتهم باعلان المقاطعة الاقتصادية للكيان العنصري الصهيوني.
ان تنمية العلاقات داخل الدائرة الحضارية لأمتنا تتطلب جهداً دؤوباً ومنظماً وتراكمياً يقوم على فكرة التواصل والحوار من جهة، تواصل يحول دون نجاح المخططات الرامية إلى توجيه البوصلة العربية بغير اتجاهها الصحيح أي باتجاه العداء للمشروع الصهيوني – الاستعماري، وحوار يقود إلى مصارحة ومكاشفة ومراجعة صادقة لمجمل هذه العلاقات لكي يتم بناؤها على أسس وقواعد من الروابط الاخوية والمصالح المشتركة، والاحترام المتبادل لسيادة كل دولة، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
في هذا الاطار ينبغي على العروبيين النهضويين دعم مشروع السوق الرباعية المشتركة التي تم الاعلان عن تأسيسها في اسطمبول قبل اسابيع بين تركيا وسوريا ولبنان والاردن سواء لجهة توسيع الدول المشاركة فيها لتصبح سوقاً مشرقية عربية اسلامية واسعة، أو لجهة تطويرها لتصبح منظومة أقليمية فاعلة على غرار مثيلاتها في العالم كما ينبغي أيضاً على ابناء الامة ان يسعوا، رغم كل الالتباسات المعروفة، الى بناء اوثق العلاقة مع الجمهورية الاسلامية في ايران التي يبقى ان نذكر ان اول ما قامت به هو طرد سفارة العدو من بلادها وهي التي ما تزال تدعم مقاومتنا لهذا العدو حتى الساعة. ففي ظل علاقات جوار وحوار وثيقة يمكن للعرب ان يعالجوا كل خلاف او اختلاف او تباين في الرؤية او الممارسة بروح من المصارحة والمكاشفة.
ومن هنا فنحن نأمل ان تتوفر ظروف النجاح لمؤتمر دائم عربي – تركي – ايراني يحضر له المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن على ان ينعقد في دمشق ، المركز الطبيعي لهذا الحوار، ويسعى لتوثيق العلاقات بين الشخصيات الفاعلة والقوى الحية في الأمم الثلاث ويكون إطاراً للحوار والتعاون والمعالجة والمصارحة بين هذه الامم.
وفي الاطار ذاته فإن المركز أيضاً إلى اقامة مؤتمر دائم مماثل بين العرب والافارقة في الخرطوم، المركز الطبيعي لهذا الحوار أيضاً ، هدفه توثيق الصلة على مستوى القوى الفاعلة والشخصيات البارزة في الوطن العربي والافريقي.
اما على المستوى العالمي، فلا بد من مواكبة هذا الاتساع الهائل في التضامن مع قضايانا في فلسطين والعراق سواء عبر تحركات داخل دول العالم، او عبر تحركات عالمية باتجاهنا من اوروبا وافريقيا والامريكيتين ومؤخراً من العمق الاسيوي باسم المبادرة الآسيوية لكسر الحصار على غزة التي ستجتمع حملتها في الشهر القادم في العاصمة اللبنانية بيروت، المركز الطبيعي لمثل هذه الاجتماعات.
واذا كانت الملتقيات العربية الدولية التي انعقدت في السنوات الثلاث الماضية من اجل القدس وحق العودة والجولان والمقاومة، وقريباً في الجزائر من اجل الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال وآخر في بيروت لملاحقة قانونية لمجرمي الحرب في العراق قد أبرزت تنامي شبكة التواصل العربية العالمية، فإن تخصيص دورة المنتدى الاجتماعي العالمي في داكار - السنغال لهذا العام لكي تكون دورة فلسطينهو انتصار آخر لقضيتنا تماماً كما هو اختيار فلسطين اسماً لاوراق المنتدى التربوي العالمي هذا العام التي ستنعقد في القدس ورام الله وغزة وبيروت ويشارك فيها كبار التربويين العرب والعالميين.
ان الاهتمام بالبعد العالمي للقضية العربية لا يوفر لنا سنداً كبيراً فحسب، ولا يجرد العدو من اهم عناصر قوته فقط، بل انه أيضاً يوسع افاقنا ويرتقي بخطابنا وممارساتنا إلى مستوى من الترفع والتعالي والعقلانية يبعدنا عن الاسفاف والغلّو والانفعال والارتجال.
سادساً: عروبة الشباب:
لا يمكن لعروبتنا النهضوية ان تكون مشروعاً مستقبليا إلا اذ نهض بها الشباب بشكل خاص في اطار من التوازن الدقيق بين تجربة الشيوخ وخبرتهم وحنكتهم، وبين همة الشباب واندفاعهم وابداعهم وهو أمر يتطلب بذل كل الجهود الممكنة مع الشباب، ومن خلالهم لتطوير وسائل إشراك الشباب في هموم الأمة وسبل ومعالجتها.
في هذا الاطار تبرز مخيمات الشباب القومي العربي التي أنطلقت عام 1990، وما تزال مستمرة حتى اليوم، وكذلك مخميات شباب الاحزاب العربية، وشباب من اجل القدس، ومخيمات شبابية عديدة على المستوى القطري والأممي، لكننا في المنتدى القومي العربي والمركز العربي الدولي للتواصل والتضامن قررنا ان نخطو خطوة هامة إلى الامام عبر تأسيس منتدى للتواصل الشبابي العربي يكون عبر ندوته الفكرية السنوية في 15 تشرين الأول/أكتوبر مدخلاً لتأسيس مؤتمر قومي للشباب العربي ينعقد كل عام ويناقش قضايا الأمة وسبل مواجهة التحديات.
معن بشور
- المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية، رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن، الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي، الرئيس المؤسس للمنتدى القومي العربي، منسق عام لجان مناصرة فلسطين والعراق.
0 اكتب تعليق على "معن بشور يكتب العروبة بين مواجهة التفتيت ورؤى النهوض"