وصول الإخوان إلى مراكز السلطة العليا في الدولة المصرية هو تعبير دقيق وحقيقي عن عجز الطبقة الرأسمالية المصرية بأجنحتها الأربعة (الزراعية والتجارية والصناعية والمالية) وصنيعتها وآداتها المخلصة البيرقراطية المدنية والعسكرية والقضائية والدينية، عن إدارة دفة الحكم، وبتعبير أدق، نهاية قدرتها على قيادة المجتمع والدولة.
إن مقارنة سريعة بين برنامج الرأسمالية المصرية في بداية العشرينيات من القرن الماضي حين كانت تتطلع إلى التخلص من الإستعمار البريطاني خاصة بعد توقف الواردات البريطانية بسبب من الحرب العالمية الأولى، وتذوق البرجوازية المصرية حلاوة المكسب حين حل إنتاج ورشها ومصانعها محل واردات يوركشير ولانكشير، وتنامي رغبتها في الإستئثار بالسوق المحلي، وصدامها اليومي بالتحالف مع القوى الشعبية ضد القصر والمستعمر، وصولا إلى برنامجها الوطني على يد عبد الناصر المتطلع إلى تحرير الإقتصاد المصري من التبعية للغرب، ومحاولة دفع مصر على طريق التصنيع والتنمية، مقارنة هذا التاريخ ببرنامج الإخوان الذين وصلوا إلى قلب ومركز الحكم في مصر، أي كرسي الرئاسة، قدس أقداس البيروقراطية المصرية المنصب الحاكم الأمين لسيطرة تلك الطبقة والمدافع عن مصالحها، هذه المقارنة بين برنامج البرجوازية في ثوبها الاخواني وبرنامجها القديم ترينا إلي أي حال انحدرت وتفككت قوة وهيمنة الدولة الممثل السياسي للطبقة البرجوازية، وترينا ضعف وتهافت وعجز برنامج تلك الطبقة، وفي الحقيقة فإن البرنامج الإخواني المطروح لايستطلع آفاق المستقبل، إنه ليس أكثر من برنامج للحراك والإحتياجات اليومية. بوصول قادة يوليو إلى الحكم، قدمت البرجوازية رؤاها وبرامجها لمواجهة قضايا التنمية والتحرر، خلال ذلك التاريخ عبر الفرعون القائد عن الجناح المهيمن في زمنه، كانت الطبقة بأجنحتها السياسية المختلفة، ممثلة في كيانها السياسي الأعلى، أي مؤسسة الرئاسة، وكبيرها العظيم، عبد الناصر أو السادات أو مبارك أو مرسي العياط، كل في دوره المحدد حسب الظرف التاريخي والمعطيات الدولية الحاكمة، ما بين قائد وطني جاد في محاربة الاستعمار وفي رغبته تحقيق تنمية وطنية، ولكن جديته لا تصل إلى حد حشد الملايين المسلحين بحقوق حقيقية حصلوا عليها، وسلاح خلق من حريات سياسية وإجتماعية وإقتصادية واسعة، ففشل في حشدهم من أجل معركة التحرير والتنمية، مما مكن الإستعمار من هزيمة مشروعه المراوح بين الرغبة في التحرر من عدو خارجي، والخوف من تحرر عدو طبقي داخلي، كما هو حال عبد الناصر، لينتهى الأمر بالرأسمالية المصرية، في طبعتها الأكثر حدة وجدية، أي رأسمالية الدولة الوطنية، بالقبول بالتبعية السياسية والاقتصادية، لتقبل بتقزيم دورها من اجل تعظيم مكاسبها، ولتستبدل مصانعها في حلوان وشبرا الخيمة والمحلة بمتاجرها التي تعرض بضاعة الغرب والصين في المولات والمتاجر الكبرى، ليختفي طلعت حرب ويعلو السويركي والشاطر وسعودي بمحال بقالاتهم ومتاجرهم، ولتدمر الزراعة على ايديهم لصالح توكيلاتهم الكبيرة التي تقدر حجم أعمالها بالمليارات ( كتوكيل إستيراد الذرة الصفراء لسكرتير مبارك اللواء جمال عبد العزيز) ، فتمحى زراعة الذرة الصفراء ويحل محلها الذرة والقمح المستوردين، وبعد أن كانت مصر عبر تاريخها القديم منذ آلاف السنين مزرعة القمح للعالم، أصبحت سلة مهملات كناسة قمح العالم! وحل محل عبد الناصر السادات فمبارك فمرسي، في سياق طبيعي ومنطقي لتطور الأمور: هل لو كان العمر امتد بعبد الناصر عشر سنوات أخرى لما فعل ما فعله السادات؟ كان طريق روجرز وقرار (242) ليصل حتما في نهايته إلى الكامب. أنه مسار الطبقة وليس مسار الأفراد، نتوءات التاريخ التي تصنعها الكاريزمات الكبيرة من أعلى لا تشكل إلا قصصا مثيرة تروى، وأحلاما تروي ظمأ البؤساء، ولكن التاريخ يعود دائما لقواعده.
وعاد التاريخ في مصر إلى قاعدته بتولي مرسي: أنه برؤية فلاح طيب ساذج للعالم ولمشاكله يريد أن يعود بمصر إلى ما قبل الحملة الفرنسية، وربما إلى ما قبل ذلك بكثير، إلى الأيام الطيبة الأولى للإسلام حيث كان العالم أبسط وأقل تعقيدا، حيث لا كهرباء ولا غاز ولا محمول، فقط التأمل العميق في الكون وعظمته، ثم الأجهاش في البكاء في كل خشوع حين تلوح ذكرى الوعود الكاذبة، ولكن ذلك لم يمنع رفيق نضاله الأكبر من أن ينشأ سلسلة من محلات التجزئة، ليبيع كل ما يمكن أن يرغب فيه المستهلك، من الكافيار الروسي حتى علب البيبسي رغم فتاوي أبو اسماعيل، مستفيدا من أفضل ما قدمه عالم السوق: حرية التجارة وحرية الاستغلال، ولكن هذه المرة باسم الدين. وشريكه الآخر يبشر زملاؤه المليارديرات بالخير القادم، ليستمتعوا هم أيضا بنصيبهم من الكعكة، فقد كافحوا طويلا حتى يصلوا إليها. وتزداد العودة قسوة وتخلفا، وتطفو على السطح كل مظاهر التخلف التي إستطاعت الرأسمالية المصرية عبر تاريخ طويل من كفاح طابور ممتد من رجالاتها التنوريين أن تمحوه، إنه تراث محمد عبده ورفاعة الطهطاوي ولطفي السيد وسلامة موسى وقاسم أمين وطه حسين ولويس عوض ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، إنهم يريدون محو كل ما حققته مصر الحديثة من إنجازات وحقوق، في السينما والمسرح والشعر وكافة الفنون، ووأد المرأة بوأد حقوقها، بل أنهم يريدون وأد وطمس معالم الحضارة الأعظم في تاريخ شعوب العالم القديم، الحضارة الفرعونية، ألا يعد ذلك بكل دقة ووضوح لا لبس فيه هزيمة لمشروع وبرنامج الرأسمالية المصرية لقيادة الأمة على يد جناح من أجنحتها الأكثر شعبية ورواجا، والاهم: الأكثر تخلفا وبعدا عن أحلامها الليبرالية، والذي ما كان ليصل إلى ذلك النجاح بالرغم من برنامجه المغرق في بدائيته لولا فشل مشروع هذه الطبقة في مجملها ولولا أنها مهدت الطريق له بفشلها المزمن؟
إن فشل البرنامج السياسي والإجتماعي والإقتصادي والطبقي للبرجوازية المصرية هو سمة الواقع الراهن الآن في مصر، وهو ما قد يؤدي إلى طريقين، الأول تصدي الطبقة العاملة وتحالف القوى العاملة من تكنوقراط وصغار وفقراء الفلاحين والشرائح الفقيرة من برجوازية المدن لقيادة المجتمع في طريق التحرر والتنمية، والثاني هو بقاء الأوضاع على ما هي عليه في حالة من التوازن السلبي مابين برجوازية عاجزة كسيرة وطبقة عاملة لاتستطيع الدفع بالواقع إلى آفاق الحرية، وازدياد الضعف والعجز المزري وتردي الأوضاع المعيشية والهبوط أكثر في مدارج التبعية والتقزيم، لينتهي إلى ما وصفته في مقال سابق عن سيناريوهات التغيير في مصر كتب قبل خلع المخلوع بعدة اشهر، بسيولة الواقع السياسي في مصر، هذا ما تدفع اليه الادارة الامريكية وحلفاءها بالمنطقة، لتظل مصر عالقة ابدا في فوضى تبدد قوتها وتزيد من عجزها.
هناك ملاحظتان، الأولى رغم أعتباري وإيماني العميق أن وصول رئيس مدني إلى سدة الحكم في مصر هو خطوة مهمة في سبيل القضاء على حكم العسكر، أي القضاء على الطبيعة العسكرية-البوليسية المباشرة للدولة، وتحجيم لهيمنة الدولة في هيئتها الاستبدادية والطبقية الأكثر سوءا، وما يقال عن أن ما حدث ما هو إلا (مجرد) إنتصار لجناح من البرجوازية على جناح آخر هو قول صحيح، ولكنه ليس (مجرد!) بل هو إنجاز حققته الثورة، إنه نقلة موضوعية تحقق ظرف أكثر موائمة للعمل السياسي الجماهيري، ولكن ذلك بالطبع يتوقف على قدرة القوى الثورية على الإستفادة منه وتطويره، إلا أني أرى تلك الخطوة إلى الأمام يراد لها أن تكون كبوة هائلة لا تقوم لمصر بعدها قائمة.
الملاحظة الثانية، هي إعتباري أن كل البرامج المقدمة من المرشحين الرئاسيين تندرج ضمن برامج البرجوازية المصرية الطامحة للخروج من أزمتها، واقع الحال أن جميع المرشحين (بمن فيهم شفيق) كانوا معبرين بشكل أو بآخر، بدرجة أو بأخرى عن برامج إصلاحية تقع ضمن منظومة الهيمنة التقليدية لدولة البرجوازية المصرية، كل في جناحه! ومن هنا فإن نقد البرنامج السياسي للإخوان المسلمين إنما هو نقد يتضمن بقية البرامج المقدمة من بقية المرشحين في خطوطها الأساسية، بعيدا عن الابتسامات العريضة والوعود الفارغة، وهو البرنامج المرشح لاختياره ممثلا للرؤية السياسية للجناح المهيمن من أجنحة البرجوازية المصرية لكونه حاز على قبول الناخبين، أو في سبيله للهيمنة، ضعفه وقوته أو عجزه عن تقديم حلول حقيقية لأزمة المجتمع، هو التعبير الدقيق عن ضعف وعجز أو قوة طبقته وليس جناحه فقط وهو ما سأبينه تفصيلا.
في مقالاتي التالية سأقدم تصوري لأبعاد الأزمة التي تواجهها أمتنا، ثم حالة الأزمة المجتمعية التي يواجهها جهاز الدولة وعجز آلياته عن القيام بوظائفها المنشئة لأجلها، والحلول التي يقدمها برنامج الإخوان، ورؤيتي لهذه الحلول، وهل يمكن أن تقدم البرجوازية المصرية، في ثوب آخر جديد غير ثوب الإسلام السياسي، حلا لأزمة الدولة والمجتمع في مصر؟؟
0 اكتب تعليق على "سلطة الإخوان ونهاية عصر البرجوازية المصرية"