بقلم /د. قدري حفني
عزيزي حمادة لا أعرف إذا ما كنت ستقرأ هذا الخطاب أم لا، كما أنني لم أقف طويلا أمام ما تردد عن انتماءاتك السياسية، فلا شيء يبرر ما حدث لك.
أود بداية أن أعرفك بنفسي؛ إنني أستاذ بالجامعة متخصص في علم النفس السياسي و لكني لا أكتب لك بهذه الصفة لأقدم لك نصيحة أو ما إلي ذلك، بل باعتبار أن بيننا علاقة ما رغم أن أحدنا لم يلتق الآخر فكلانا ننتمي لنفس المحافظة.
أود بداية أن أعرفك بنفسي؛ إنني أستاذ بالجامعة متخصص في علم النفس السياسي و لكني لا أكتب لك بهذه الصفة لأقدم لك نصيحة أو ما إلي ذلك، بل باعتبار أن بيننا علاقة ما رغم أن أحدنا لم يلتق الآخر فكلانا ننتمي لنفس المحافظة.
أسرتي قذف بها ضيق الحال منذ عقود طوال من قرية الكوامل القبلية من أعمال جرجا إلي القاهرة حيث ولدت و نشأت.
و لذلك فإنني أعرف إحساس الصعيدي بالإهانة الشخصية. و لكن علاقتنا يا صديقي لا تقف عند هذا الحد فبيننا ما هو أوثق من الانتماء للصعيد، و هو أنني قد مررت بنفس خبرتك القاسية منذ ما يزيد عن نصف القرن.
في يوم الخميس السادس و العشرين من نوفمبر 1959 كنت أقترب من الثانية و العشرين و كان قد مضي علي اعتقالي أسبوعين حين تم ترحيلي من معتقل القلعة إلي معتقل أوردي ليمان أبو زعبل حيث أحاط بنا الجلادون في ساحة المعتقل و وسط صرخاتهم بالسباب جردوني من ملابسي تماما و انهالوا علي بالشوم و أجبروني علي الركض عاريا متعثرا أمام أعينهم إلي حيث عنبر الاعتقال، و ظللت يا صديقي أتنقل بين معتقل و آخر طيلة ما يقرب من أربعة أعوام. و بعدها بسنوات أقر القضاء بما جري و حكم لي و لغيري بالتعويض.
ثمة تشابه بين خبرتينا، فالعري هو العري و الضرب هو الضرب و الإهانة هي الإهانة و لكن كان هناك فارق: كنا آنذاك نؤمن بعقيدة سياسية، و كان عقابنا جماعيا. كنت وقتها شابا صغيرا و كان من يجبرون علي التعري معي و أمامي هم العشرات من المثقفين و العمال و الفلاحين و الطلبة المصريون.
في يوم الخميس السادس و العشرين من نوفمبر 1959 كنت أقترب من الثانية و العشرين و كان قد مضي علي اعتقالي أسبوعين حين تم ترحيلي من معتقل القلعة إلي معتقل أوردي ليمان أبو زعبل حيث أحاط بنا الجلادون في ساحة المعتقل و وسط صرخاتهم بالسباب جردوني من ملابسي تماما و انهالوا علي بالشوم و أجبروني علي الركض عاريا متعثرا أمام أعينهم إلي حيث عنبر الاعتقال، و ظللت يا صديقي أتنقل بين معتقل و آخر طيلة ما يقرب من أربعة أعوام. و بعدها بسنوات أقر القضاء بما جري و حكم لي و لغيري بالتعويض.
ثمة تشابه بين خبرتينا، فالعري هو العري و الضرب هو الضرب و الإهانة هي الإهانة و لكن كان هناك فارق: كنا آنذاك نؤمن بعقيدة سياسية، و كان عقابنا جماعيا. كنت وقتها شابا صغيرا و كان من يجبرون علي التعري معي و أمامي هم العشرات من المثقفين و العمال و الفلاحين و الطلبة المصريون.
كان منهم الصحفي فيليب جلاب و الطبيب رؤوف نظمي و بالمناسبة كلاهما من الصعيد و كان منهم أيضا من أساتذة الاقتصاد الدكتور فؤاد مرسي و الدكتور إسماعيل صبري عبد الله و الدكتور فوزي منصور و المهندس الدكتور فايق فريد و الفيلسوف محمود أمين العالم و الفنان المسرحي ألفريد فرج و المطرب محمد حمام و الشاعر فؤاد حداد و الممثل علي الشريف، و المفكر الشهيد شهدي عطية الشافعي و الطبيب الشهيد فريد حدادٍ و غيرهم كثيرون و هؤلاء ليسوا سوي نماذج قليلة ممن شهدت شخصيا ما حري لهم و هو ما سمعت أنه جري و ربما أفظع منه للعديد من المشتغلين بالشأن العام من الشيوعيين و الإخوان المسلمين و غبرهم.
غير أن أحدا منا لم يخطر بباله قط أن عليه أن يخجل من نفسه بل علي العكس كنا و ظللنا علي يقين من أنه علي الجلادين إيا كانت هويتهم أن يخجلوا هم من أنفسهم. لقد كانوا يقصدون إذلالنا فقرر كل منا أن تظل هامته بينه و بين نفسه مرفوعة فليس ثمة ما يستوجب الخجل.
غير أن أحدا منا لم يخطر بباله قط أن عليه أن يخجل من نفسه بل علي العكس كنا و ظللنا علي يقين من أنه علي الجلادين إيا كانت هويتهم أن يخجلوا هم من أنفسهم. لقد كانوا يقصدون إذلالنا فقرر كل منا أن تظل هامته بينه و بين نفسه مرفوعة فليس ثمة ما يستوجب الخجل.
و أدركنا أيضا أنه لا عداوة شخصية بيننا و بين هؤلاء الجنود البسطاء الفقراء الذين يعذبوننا فجميعهم من أبناء الأسر البسيطة فضلا عن أنه لا توجد بيننا أية معرفة شخصية تبرر العداوة.
لقد أدركنا أن من يعذبنا هو النظام الذي أفرز هؤلاء و دربهم و أقنعهم بأن تلك هي وظائفهم التي يتقاضون عليها أجورهم.
و لذلك أصدقك القول يا صديقي أنني و قد تجاوزت السبعين لم أشعر يوما بذرة حقد شخصي حيال أحد من هؤلاء جميعا.
حين شاهدت ما جري لك يا صديقي شعرت بالحسرة. فها نحن نري نفس المشهد بعد عامين من الثورة و في ظل رئيس منتخب ينتمي إلي واحد من الفصائل التي عاني أبناؤها من التعذيب و الإهانة.
صحيح أن التعذيب في أيامنا جري بعيدا عن عيون الجمهور فضلا عن أنه لم تكن تلك الكاميرات المتطورة موجودة لتسجل الحدث وقت وقوعه بالصوت و الصورة؛ و رغم ذلك فقد انكشف كل شيئ في النهاية و هو ما سيحدث قطعا لكل تعذيب يجري خفية في الأقبية المظلمة، و لنتذكر جميعا أن التعذيب و العري و الإهانة لا تعني شيئا سوي الخزي و العار للجلادين، و أنه لا بد للحقيقة أن تظهر يوما، و أن الحياة سوف تستمر.
حين شاهدت ما جري لك يا صديقي شعرت بالحسرة. فها نحن نري نفس المشهد بعد عامين من الثورة و في ظل رئيس منتخب ينتمي إلي واحد من الفصائل التي عاني أبناؤها من التعذيب و الإهانة.
صحيح أن التعذيب في أيامنا جري بعيدا عن عيون الجمهور فضلا عن أنه لم تكن تلك الكاميرات المتطورة موجودة لتسجل الحدث وقت وقوعه بالصوت و الصورة؛ و رغم ذلك فقد انكشف كل شيئ في النهاية و هو ما سيحدث قطعا لكل تعذيب يجري خفية في الأقبية المظلمة، و لنتذكر جميعا أن التعذيب و العري و الإهانة لا تعني شيئا سوي الخزي و العار للجلادين، و أنه لا بد للحقيقة أن تظهر يوما، و أن الحياة سوف تستمر.
0 اكتب تعليق على "رسالة إلي السيد حمادة صابر"